لكي نبدأ في سرد قصة سيدنا نوح عليه السلام من المهم أن نتعرف على نسبه وأصوله، هو نوح بن لامك بن متوشلخ بن أخنوخ بن يارد بن مهلاييل بن قينان بن أنوش بن شيث بن آدم أبي البشر عليهم جميعا السلام.
قصة نوح عليه السلام |
يقال عنه آدم الثاني؛ لأنّ جميع الباقين على الأرض من ذريته وذلك استنادًا لقوله تعالى: ﴿وَجَعلْناَ ذُرّيتَهُ هُمُ الْباقيينَ﴾، هو أول أولي العزم من الرسل، ولأن أمته كانت أول أمة مشركة أتت على ظهر الأرض، فكان هو أول من أرسله الله تعالى ليحذر الناس من الشرك وعبادة غير الله.
اختلف المؤرخون في تحديد المدة بين آدم و نوح عليهما السلام فيرى البعض أنّ نوحًا قد وُلد بعد موت آدم بمئة وست وأربعين سنة، ويرى البعض الآخر أنه وُلد بعد موت آدم بمئة وست وعشرين سنة.
كما قال عبد الله بن عباس (رضي الله عنه) وورد في البخاري: "كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام" وهذا يدل على قولنا فيما سبق أن أمة سيدنا نوح عليه السلام هي أول الأمم المشركة على الأرض، وقبلها ومنذ آدم عليه السلام كان البشر يحيون على الإسلام وعبادة الله واحد لا شريك له، حتى وسوس الشيطان لقوم نوح بالكفر وعبادة الأصنام، ولهذا بعث الله لهم نوحًا رسولًا يهديهم إلى الصراط المستقيم.
كم عاش نوح عليه السلام؟
ذُكِر في العديد من المؤلفات التي عرضت قصة سيدنا نوح لكثير من العلماء أنّ نوحًا (عليه السلام) قد عاش ألفًا وسبعمئة وثمانين سنة وكان أطول النبيين عمرًا، وذكر البعض الآخر من العلماء أنه عاش ألفًا ومئة وخمسين سنة ، وقيل أيضًا أنه عاش ألفًا وأربعمئة وخمسين سنة.
بينما ابن عباس - رضي الله عنه - فقال أنّ نوحًا بُعث وكان عمره أربعين سنة، وبقي في قومه يدعوهم كما جاء في القرآن ألف سنة إلا خمسين، وعاش بعد الطوفان ستين سنة.
كثُرت الأقاويل في هذا الشأن وهو عدد السنين التي عاشها نوح (عليه السلام).
عهد قوم نوح
على كل حال وصلت الوصاية والنبوة لـ «نوح بن لامك بن متوشلخ بن أخنوخ بن يارد بن مهلاييل بن قينان بن أنوش بن شيث بن آدم أبي البشر عليهم جميعا السلام، ولم يذكر القرآن أي شيء عن نسب نبي الله نوح، ومن هو أبوه، ولا حتى سبب تسميته بهذا الاسم، وكل ما ذكرناه هو منقول عن التوراة وكبار المؤرخين المسلمين.
أما عن سبب تسميته بـ «نوح»، فقال بعض المؤرخين أمثال يزيد الرقاشي» أن سبب تسميته بذلك كثرة النواح والمناجاة لخالقه بسبب عصيان قومه، ولكنَّ هناك تشكيكًا في هذا التفسير والسبب أن تسميته سبقت نبوءته، وإذا افترضنا أن آباءه كانوا أتقياء كما ذكرنا، كيف علموا أنه سيكون كثير النواح والخشوع، وإذا افترضنا أن الله ألهمهم بذلك فسنجد إشكالية أخرى تتمثل في أن نوح وأهله كانوا عجم، فكيف ألهمهم الله أن يختاروا هذا الاسم الذي يُشير إلى هذا المعنى في العربية فقط، وإذا افترضنا ذلك فالنقطة الأهم والأكثر حسما هي أن اسمه «نوح» بضم النون، وهذا الاسم في اللغة العربية لا يدل على كثرة النواح وليس له معنى في اللغة العربية كلها على الإطلاق، فإذا كان اسمه (نوح) بفتح النون كان هذا التفسير صحيحًا، لكن اسم (نوح) هو المعتاد والمشهور، وبالتالي هذا التفسير للمعنى عار من الصحة.
بعث «نوح» كنبي في غير ذُريته لأول مرة منذ خَلْق البشرية الأولى، وفي زمانه كان قد زاد الاختلاط وطغى، وكثرت ذرية «قابيل»، التي تفرّع منها قوم نوح.
من هم قوم نوح؟
لم تقف كتب التفسير على انتساب هؤلاء الناس إلى قبيلة معينة لجنس بشري خاص باستثناء أنهم من ذُرية قابيل، ولكن ذكر «ابن كثير» أن قوم نوح اسمهم (بنو راسب) ونقل ذلك عن ابن جرير الطبري وغيره، ولكن بمراجعة تاريخ الطبري سيتبين أنه لم يقل ذلك بوضوح، فقد قال عبارة تتضمن: (وأن منهم من يقول: كانوا أهل طاعة بيوراسب، وكان قومه يعبدون الأصنام) وربما لندرة التنقيط قديماً، تصحفت كلمة «بيوراسب»، إلى بنوراسب» ثم أصبحت كلمتين: «بنو» «راسب».
وأما جعل بنو راسب هم قوم نوح، فلأن بعض الرواة جعلوا نوحًا بزمن الملك «بيوراسب»(الضحاك)، ويتبين بعد دراسة المراجع والمصادر جميعها أنه لا يوجد حجة أو برهان لخدمة فكرة أن قوم نوح اسمهم «بنو راسب»، ولا حتى عاصروا الملك الضحاك الذي حكم بابل في الأسطورة الشهيرة، بل أقرت غالبية أخرى أنه جاء بعد زمان نوح بقرون، ومنهم من قال إنه حميري حكم مملكة «حمير»، وآخرون قالوا إنه هو النمرود بن كنعان» نفسه، وهذا يدل على أن قصته وردت بعد الطوفان بزمان فوق الأزمان، وبناءً على ذلك يظل نسب قوم نوح مجهول نظرًا لعدم وروده في السجلات التاريخية أو الدينية بشكل واضح؛ والسبب هو فناؤهم دون ترك أي أثر تاريخي لهم، وما ورد في شأن اسم قوم نوح في المواضع العدة ليس له أي سند قوي نجذم به بل هي مجرد أخبار تتوارث دون دليل، وبالبحث والتدقيق سنجد أنه لا وجود لقبيلة تحمل اسم «بنو راسب» إلا قبيلة عريقة وحيدة سكنت أرض جعلان بسلطنة عمان، وقد نشأت بعد طوفان نوح بقرون طويلة، حيث أنها خرجت من نسل أحفاد نوح نفسه، وهم بنو راسب بن مالك بن میدعان بن نصر بن الأزد».
وبعيدًا عن أصول قوم نوح، فلا شك في أن هؤلاء كانوا لا مثيل لهم في الأولين، فهم أول من ابتدع الشّرك، وأول من عبد صنما في تاريخ الأسلاف، وكانوا يعبدون أصناما خمسة وهم: «ود» و «سواع» و «يغوث» و «يعوق» و «نسر » ، وكانت هذه الأصنام لنفر من بني آدم قد شاع صيتهم قبل هذا الزمان في الصلاح والتقوى عندما كانت ذرية «شيث» السابقة، وكان لهم أتباع يقتدون بهم ، فلما ماتوا حزن عليهم أتباعهم حزنًا عميقا ووقفوا عند قبورهم باكين، وتمنوا أن يروهم مُصوَّرين حتى يستذكروا صلاحهم فيقتدون بهم في العبادة، فصوروهم على هيئة تماثيل، ثم بدأوا يتباركون بهذه الأصنام؛ ثم عظموها مهلا فمهلا، فلقد تعامل الشيطان مع هذا الأمر بصبرٍ شديد ، ولم يحرضهم على الشرك بشكل سريع، ولو كان قد فعل ذلك لانكشف أمره وما تجرأ أحدهم على الإقدام نحو فكرة الشّرك بالله أو حتى استيعابها ، لكنه تدرّج في الفكرة حتى لا يشعرن بها أحد، فلقد طاوعهم في الفكر بدهاء شديد، وكأن الشيطان نفسه أحبَّ هؤلاء الرجال الصالحين، لذلك أوحى لهم بوجوب صناعة تماثيل تُخلّد ذكرى الصالحين في زمانهم، وبعدما استبدل الله هذا النسل بنسل آخر أقل علما ، أكمل الشيطان باقي خطته، وأقنعهم بأن من سبقوهم قد عبدوا هذه الأصنام واستسقوا بها المطر، فاستجابوا له وأصبحت عبادة هذه الأصنام هي العبادة السائدة في هذا الزمان وبنوا لهم معابد وصروحاً، وأول من عُبد على الأرض من دون الله كان الصنم «ود»، وأول اسم سميت به الأطفال في الشرك «عبد ود».
نبؤة نوح عليه السلام
بعدما زاد الشرك والضلال بين هؤلاء بعث الله فيهم «نوح» علية السلام كأول رسول نبي؛ وأول أُولي العزم، ولم يبعث الله نوح لقومه على صورة بشير كغالبية الأنبياء؛ ولكنه جاء كنذير نظرا لسوء حالهم،وذلك في نص القران الكريم ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينُ﴾، لأنهم كانوا قائمين على شر لم يسبق له مثيل؛ لا سيما بدعة الشرك بالله التي لم يسبقهم أحدا بها. آمن مع نوح عدد قليل جدا من فقراء قومه، وكان أول من اعترض دعوته وتصدى لها الملأ من قومه الذين كانوا يأمرونهم بعبادة الأصنام، وكانت كلمتهم نافذةً نظراً لقوتهم وأموالهم الجمة وأولادهم الكثر كما ذكر القران الكريم ﴿قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَن لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا﴾، فهم الذين يملأون الواجهة السياسية وصناعة القرار، هم المتحكمون في الرأي العام بأموالهم، هم كبار القوم وساداتهم ووجهاؤهم، وهم الذين أثاروا الشبهات ضد نوح، وصوبوا تهديداتهم نحوه، وهم الذين قالوا له: يا نوح كُف عما تقوله؛ فالذي تدعونا إليه ضلال مبين. ولكن لم يزجر نوح ولم يقابل إهانتهم بهجاء ، بل قال بلطفِ سَهْل المرام: يا قومي، ليس بي ضلالة ولكني رسول قد بعثني الله إليكم؛ أبلغكم الرسالة من خالقكم وأنصح لكم وأعلم من الخالق ما لا تعلمون، فردّوا عليه باستخفاف وانتقاص : أن يا نوح ما أنت إلا بشر مثلنا ولم يتبعك إلا أراذلنا؛ أراذلنا أي أتعس الناس او أفقر الناس او الضعفاء، بادي الرأي؛ بادي الأمر أي أنهم «إمعات يتبعون كل نعق». ، ونحن سادة القوم وأسياده فكيف يجمعنا وإياهم دين واحدٌ؟ فرد عليهم نوح بحلم الحكمة قائلا أن: يا قوم، لا إكراه في الدين ولن نلزمكموه وأنتم له مكروهون. أما أنا فلا أسألكم المال فأجري على الله، وأما هؤلاء المساكين والضعفاء فأنا غني بهم ولن أطردهم إرضاءً لكبركم؛ فمن ينصرني من الله إن طردتهم؛ فأنا لست ملكًا ولم أملك خزائن الأرض، فأنا بشر مثلي مثلكم قد بعثني الله إليكم لكي أنذركم عذاب يوم عظيم، يا قومي اعبدوا الله واستغفروه إذا أردتم خير الدنيا والآخرة، لم لا تعظمون ربكم الذي خلقكم وترجون له وقارًا! وما كان من كفار قومه إلا أن اجتمعوا ضده ماكرين داعين الناس بأن لا يذروا آلهتهم، ومنعوا الإنصات لكلام نوح.
صفات قوم نوح عليه السلام
بهذا الشكل استمروا في التعنت والجدال طوال ألف سنة إلا خمسين عاما؛ وهذا عُمر دعوة نوح وليس عمره كاملًا، ولم تكن الدعوة على مراحل بل كانت ليلا ونهارًا؛ على صورٍ وأشكال متنوعة، فكان يدعوهم سرًا بشكل أحادي؛ وجهرًا بشكل جماعي، وطوال هذا العمر الطويل
أعطاهم الله فُرصا كثيرة تمثلت في مئات السنين وقتًا وعشرات المواضع مكانًا وعشرات الطرق دعوةً، ولكن استمر مبتدعو الشرك في ضلالهم؛ بل زادوا عليه ضلالا وكبرًا، حيث كان مجتمع هؤلاء يشع بالطبقية، وكانوا قوما متكبرين لا يملكون سعةً من البال، فكانوا لا يريدون سماع كلامه من الأساس، ووصل كبرهم إلى أن قاموا بوضع أصابعهم في آذانهم ككناية على عدم الرغبة في دخول نقاش؛ حتى وإن كان من يحدثهم نذيرًا بحجةٍ بينة، ثم زادهم الكبر كبرًا حيث استغشوا ثيابهم حتى لا يرون وجه نوح؛ في انقلاب واضح للصورة، فالفطرة الإنسانية دائما ما تصوّر وجه الناصحين بالنور والراحة حيث يعتبر النظر في وجوه الصالحين عبادةً، بينما هؤلاء بإصرارهم وكبرهم قد بدلوا الآية، فهو إجراء منهم يدل على أن وجه المصلح الناصح بالنسبة لهم وجه مكروه، فقد استحبوا الهوى والرجس وأطاعوه، وما دون ذلك من صلاح بالنسبة لهم مجرد ثرثرة ومضيعة لوقتهم الثمين الذي كرسوه في الشرور واللعب. لم تتأثر قلوب قوم نوح رغم مجهوده الذي لم يتوقف لمدة تسعمائة وخمسين سنة، وبمنتهى الوقاحة استعجلوا عاقبتهم طالبين منه إنهاء النقاش؛ وأنه جادلهم فأكثر جدالهم فآن الآوان أن يأتيهم بما يعدهم، وهذا يوضح أن مجتمعهم بالفعل كان مجتمعًا معاندًا لا يستوعب أن يكون به ناصحا أو صالحًا وأنه مجتمع غارقٌ في الشَّر لا يريد أن يرى أو يسمع أو يفكر... وزاد عبثهم عندما آذوا نوحًا بقولهم عنه مجنون وازدجر تارةً؛ وكذَّابٌ آشر تارةً أخرى، وعن كثرة جبروتهم روى «ابن جرير الطبري» أن كان هناك رجل طاعن في السن عاجز يحمله ابنه، قال احملني إلى هذا الرجل الذي يسمى نوحًا؛ فحمله، ولما أنزله أخذ عصاه وطفق يضرب نوحًا على رأسه.
وبهذا الشكل كان أذى نوح يشارك فيه الكبير والصغير، الرصين والساقط، الأبيّ والأحمق، الوقور والوضيع، بل كان أيضًا من وصايا الأب والأم عند الموت أن لا يؤمن أهلاهما بدعوة نوح.
أعداء من أهل نوح عليه السلام
كفر بدعوة نوح الغالبية العظمى من قومه، بل وكان من ضمن هؤلاء الكفار زوجته الأولى وولده منها، حيث كان فيما ورد لنوح زوجتان الأولى وصفها القرآن بالخائنة؛ ولها منه ولد لم يتبع مِلَّة النبي نوح مثل أمه؛ واسمه «يام» (كنعان) ، وأخرى مؤمنة ولها منه ثلاثة أبناء «سام» و«حام» و«یافث»، نص بعض المفسرين على أنه كان لنوح امرأة مسلمة، قال البيضاوي في أنوار التنزيل: ﴿إلَّا سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ﴾ بأنه من المغرقين يريد ابنه كنعان، وأمه واعلة، فإنهما كانا كافرين. ﴿وَمَنْ ءَامَنَ﴾ والمؤمنين من غيرهم. ﴿وَمَا ءَامَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ﴾ قيل : كانوا تسعة وسبعين؛ زوجته المسلمة، وبنوه الثلاثة سام، وحام، ويافث، ونساؤهم، واثنان وسبعون رجلًا وامرأة من غير أهله وكذلك قال ابن عجيبة في البحر المديد.
وزوجته الأولى التي وصف القرآن كفرها، عند العبرانيين، اسمها «والهة» أو «نعمة» ؛ ومعروفة لدى علماء التفسير الإسلامي باسم «واغلة» لأنها توغلت في الكفر على حد تفسيرهم، وصفها بالخائنة لا يعني باغية؛ فما بغت امرأة نبي قط، فنساء الأنبياء معصومون عن الوقوع في البغاء لحرمة أزواجهن الأنبياء، ولكن خيانتها كانت تكمن في أنها رفضت الإيمان؛ وخانت نبي الله بنقلها أخباره إلى أعدائه وأصحاب النفوذ من الضالين المضلين في القوم، وكانت أحيانًا تتهمه بين قومها بالجنون، وكان نبي الله قد تزوجها قبل تبليغه رسالة ربه؛ ولما عرض عليها التوحيد استكبرت وبقيت على كفرها حتى الطوفان، وهناك رأي آخر يقول إن واغلة لم تمت في الطوفان ولكنها ماتت قبل وقوع الطوفان الذي غرق فيه المشركون.
التجهيز لصناعة الفلك
وصل الأذى إلى قلب النبي الصبور ؛ واستنفد معهم كل الفرص التي كانت ستنجيهم من بطش الله، فأوحى الله تعالى إليه أنه لن يؤمن من قومك إلا من آمن؛ وأن باب التوبة قد تم إغلاقه؛ فلا تحزن ولا تبتئس بما فعلوا،﴿وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِن مِن قَوْمِكَ إِلَّا مَن قَدْ مَا مَنَ فَلَا نَبْتَبِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾ ويصف القرآن دعاء نوح لربه بأن يارب لا تذر على الأرض شخصًا واحدًا؛ حتى لا تتكاثر ذُريَّتهم وينشروا الفساد في الأرض؛ فيزدادوا إثما وعذابًا أكبر،﴿وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا نَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَفِرِينَ دَيَّارًا﴾، فاستجاب له الله تعالى وأعقم أرحام النساء فلم يولد لهن ولد بعد هذه اللحظة، وأوحى الله له أن يا نوح إصنع فُلكًا؛ ولا تخاطبني في الذين كفروا من اليوم وصاعدًا مهما كان منهم عزيز؛ فمصيرهم الغرق لا محالة. أصدر الله الأمر لنوح بصناعة الفُلك ولم يخبره بموعد الطوفان، ولكن كيف سيصنع نوح سفينة في الصحراء؛ ومن سيعلمه صناعة السفن حيث لم يرها من قبل ، ثم من أين سيأتي بالأخشاب أو الأشجار في هذا المكان القاحل! بدأ نوح عليه السلام في صنع الفُلك بأعين الله ووحيه؛ فأعين الله الفلك التي حرست حتى لا يفسده أحدًا أو يعبث به العابثون،﴿وَأَصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ﴾، أما وحي الله فهو «جبريل» عليه السلام الذي علم نوح حرفة صناعة السفن لأول مرة وأهداه إلى أدواتها، وقال «الشيخ متولي الشعراوي» رحمه الله بأن مصدر الأخشاب التي بنى بها نوح الفلك كان من خلال شجرة قد زرعها نوح قبل مئات السنين بأمرٍ من الله العليم دون أن يخبره وقتها بالغرض من ذلك، وقال تلك الشجرة عاشت طيلة عمر دعوة نوح، وبسبب طول المدة كانت قد تضخمت جدًّا، وبما أن جذع الشجرة ينمو دائريا بمقدار دائرة كل عام؛ فاذا قطعت الشجرة فستجد أن قطر الجذع نفسه مقسما لدوائر ؛ وكل دائرة تمثل عامًا من عمرها؛ فما بالك بمئات من السنين، وبهذا الشكل ربما تكون هذه الشجرة العملاقة وحدها هي التي تكفلت ببناء هذه السفينة الضخمة كلها والله أعلم.
كما أن بعض المفسرين لهم رأي آخر بأن نوحًا ظل مائة عام يغرس الأشجار ويقطعها، ومائة سنة يصنع الفلك، بينما قال آخرون أن نوحًا زرع الشجر أربعين سنة وجففه أربعين سنة،(عن زيد بن أسلم قال: «مكث نوح عليه السلام مائة سنة يغرس الأشجار ويقطعها، ومائة سنة يعمل الفلك، وقيل: غرس الشجر أربعين سنة وجففه أربعين سنة). وكل هذه الآراء من الإسرائيليات باعتراف المؤرخين المسلمين الذين تناقلوها، نظرًا لعدم وجود نص واضح لها في القرآن.
مواصفات الفلك
بدأ نوح في بناء الفُلك، وتشكيل عتاده من الخشب والحديد والقار الذي عُرف منذ قديم الأزل في طلاء السفن للوقاية من تسلّل الماء، وظل مجتهدا في بنائه ولا يخاطب أحدًا، وكان يمر عليه المشركون فيسخرون منه ويتَهَكَّمون عليه حيث أنهم كانوا لا يعرفون الفُلك قبل ذلك، ولكن ما هو ظاهر أمامهم أنها أعمال نجارة؛ فقالوا له ساخرين: يا نوح كنت نبيًّا والآن صرت نجارًا، ما كذبنا عندما قلنا عنك مجنونا يا نوح، فقال لهم نوح: إن تسخروا منا فنحن أيضًا نسخر منكم، وسوف تعلمون مستقبلًا من سيأتيه عذاب يخزيه،﴿وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأ مِّن قَوْمِهِ، سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ﴾، وعندما اتضح لهم أنه يصنع سفينة زاد تعجبهم وسخريتهم من صنع سفينة في الصحراء.
كان نوح يصنع الفُلك بمهارة شديدة وكأنه نجار محترف، وعلمه الله تقطيع الألواح وضمها بالتوازي، وشدها بأربطة ودُسُر؛ كلمة «دسر» في المعاجم اللغوية ليس معناها مسامير السفن وحسب؛ بل وشُرطُها التي تُشد بها؛ وكان البحارة العرب في القرون الوسطى يسمون الحبال التي توضع بدل المسامير المعدنية خوفًا من الصدأ دسرًا، حتى ذهب بعض المفسرين إلى القول بأن دسر السفينة هي حبالها وأربطتها، وكانت سفينة نوح ذات مسالك أو مساكن أو غرف كما جاء وصفها في القرآن الكريم، حيث قسَّم نوح الفُلك إلى ثلاث طبقات، ليجعل السفلى للدواب والوحوش، والوسطى للناس، والعليا للطيور، وجعل بابها في عرضها، ونقل بعض العلماء المسلمين ما ذكرته التوراة بأن الله أمره بجعل طولها ثلاثمئة ذراعًا وعرضها خمسين ذراعًا، وارتفاعها في السماء ثلاثين ذراعًا، واستمدَّ علماء الإسلام هذا التدوين نسبةً لما تم ذكره في سفر التكوين، وقيل كان طولها ألف ومائتي ذراع وعرضها ستمائة ذراع؛ وأن نوحًا صنع السفينة في سنتين فقط؛ وقيل غير ذلك، ولم يرد عن ذلك في الإسلام من خبر، لكنها كلها منقولة عن أهل الكتاب كما يشير بذلك الناقلون.
علامة إنطلاق الفلك
انتهى نبي الله من صُنع السفينة، وأوحى له الله أن هناك علامة إذا ظهرت فاركب أنت والذين آمنوا معك الفُلك، وتلك العلامة هي فوران «التنور»، والتنور هو الفرن؛ والعلامة هي أن يفور الماء من نار الفرن في حدث إعجازي حتى تكون الآية واضحة، بينما فسر مفسرون آخرون أن فوران التنور يعني انفجار الماء من وجه الأرض، أو كما تفعل البراكين تُخرج البخار المغلي بفوران سريع يتحول مباشرةً إلى ماء أو مطر شديد، وعدة آراء تفسيرية أخرى.
بالفعل وقعت العلامة وعرف نوح أن لحظة الحسم قد حانت، وأمره الله أن يحمل في السفينة من كل نوع من الحيوانات زوجين اثنين وأهلك؛ والمقصود بأهلك أهلية النسب وأهلية الإيمان أيضًا؛ أي كل من اتبعوك وآمنوا؛ تاركًا كلَّ مَن سبق عليهم القول ممن لم يؤمنوا بالله؛ بما فيهم ابنك وإمرأتك اللذان عارضا دعوتك.
وما آمن مع نوح إلا قليل برغم طول المدة؛ وورد في كتب المفسرين أنه لم يؤمن مع نوح إلا ثمانون نفسًا، وقيل مجموع الثمانين يشمل نوحًا في العدد؛ وهم نوح وزوجته (يقصد المؤمنة) وأولاده الثلاثة «سام» و «حام» و «يافث» وزوجاتهم الثلاثة، بالإضافة إلى اثنين وسبعين نفسا ممن اتبعوه، وهذا العدد هو ما تم التوافق عليه من بين مجموعة آراء أخرى.
كيف ستركب الوحوش السفينة؟
بدأ نوح في حمل زوجين من كل ما توفر لديه من حيوانات وبهائم وطيور من أجل بناء حياة جديدة بعد الطوفان، ولكن تبقى هناك معضلة واحدة هي التي أبقتهم منتظرين حتى الآن؛ وهي كيف سيصطحبون الوحوش لامتطاء السفينة! الجميع يفكر في حلّ حتى يتثنى لهم إغلاق باب السفينة، وقد تكهن بعض المفسرين أن حيلة اصطحاب الوحوش حدثت بتسهيل من الخالق، فقد ذكر بعضهم أن نوحا لم يكن مطالبًا بفعل غير المتاح، فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها؛ فلم يُطلب منه أن يجوب العالم كله بحثًا عن الأجناس الحيوانية؛ فكلا بأمر الله وإلهامه؛ فما كان عليه إلا أن يجمع زوجين من كل حيوان أو طائر أو حتى وحش من المتاح في بقعته، وقد رُوي في بيان كيفية الجمع بين أنواع الحيوان التي لا تجتمع عادة في مكان واحد روايات موقوفة وآثار مقطوعة لا داعي لذكرها لأنها دون دليل، وهذا كله قصص لا يصح إلا لو استند، والله أعلم كيف كان.
وجاء في الروايات عن ابن مسعود أنه قال: «لم يستطع نوح عليه السلام أن يحمل الأسد حتى ألقيت عليه الحمى، وذلك أن نوحا عليه السلام قال: يا رب، فمن أين أطعم الأسد إذا حملته؟ قال تعالى: فسوف أشغله عن الطعام فسلط الله تعالى عليه الحمى، وقال العلماء المسلمون أن أمثال هذه الكلمات من الأولى تركها، فإن حاجة الفيل إلى الطعام أكثر ولیس به حمی.
وهناك روايات أخرى منها أن منذ بداية أهوال الطوفان نزل المطر الغزير أول شيء دون أن يُغلق باب السفينة؛ حيث هطلت الأمطار من السماء كأفواه القِرَبِ، مطرًا منهمرًا لم تعهده الأرض من قبل؛ فتفاجأوا بالوحوش يهلعن وسط الأرض هربًا من الماء؛ وبأمر من الله اجتمع الكثير منهم حول السفينة، فحينئذٍ حمل فيها نوح من كل زوجين اثنين وأغلق بابه. وآراء أخرى عديدة والله أعلم ، ولكن ما اجتمع عليه العلماء أن الأمر من أوله إلى آخره إعجازي، فمَنْ سخَّر طوفانا وبدل الأرض لن يُعجزه السيطرة على الوحوش وهدايتهم.
بداية الرحلة
بعد هطول الأمطار من السماء أمر الله الأرض فنبعت المياه من جميع فجاجها وسائر أرجائها، ﴿فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءِ مُنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونَا فَالْتَقَى الْمَاء عَلَى أَمْرٍ قَدْ قَدِرَ﴾ ووقتها أُغلق باب السفينة بعد تنفيذهم لأمر بركوبها، وبدأت الرحلة،﴿وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ تَجْرِيهَا وَمُرْسَهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ ونظر نوح فوجد المشركين يهرولون من هول الفاجعة، ثم رأى نوح ابنه يقف في معزل فناداه: يا بني، تعال اركب معنا، فرد عليه في إصرار على الشرك قائلًا: سآوي إلى جبل عال يعصمني من الماء، فحزن نوح وأخبره بأن العذاب قادم ولا عاصم من أمر الله، وحال بينهما الموج بإرادة الله ورحمته حتى لا يرى الأب ابنه وهو يغرق ويتألم، وهذا عطفٌ من الله على قلب نبيه الأب.
وفسر علماء المسلمين أن الطوفان كان لهؤلاء عذاب مقيم ليس مجرد مياه تغمر سطح الأرض فيغرقون ويموتون، ولكن هناك كناية عن العذاب بالاختناق أثناء محاولاتهم النجاة ومقاومة الأمواج؛ أو كما يقال الموت بالبطيء.
بدأت رحلة السفينة من الماضي إلى المستقبل؛ الرحلة التي تغير بعدها كل شئ، وبدأت أهوال الطوفان العظيم.
قصة سيدنا نوح عليه السلام بطريقة ممتعه